17.8.06

من أجل حرمة الامتحانات والشهادات

شهد تاريخ النظام التعليمي المغربي أكثر من مرة تسريب الامتحانات؛ مما أتاح ويتيح للوزارة فرصة للتساؤل: لماذا تسريب الامتحانات؟ ما الأسباب والمسوغات وسبل العلاج؟ ومما شكل ويشكل دوافع إحداث إدارة الأزمات في بنية النظام التعليمي، ليتعاطى على الأقل مع هذه الظاهرة حين حدوثها. لكن لم يحدث شيء من ذلك، وذهبت تلك التقارير والأدبيات وذلك التاريخ أدراج الرياح، وتم نسيانها في رفوف الوزارة. فصارت التسريبات السابقة مجرد حدث تاريخي عابر ليست له أية قيمة في الحياة التربوية. وبذلك وجدناه يتكرر وسيتكرر إذا لم نقف عنده بكل عمق تحليلي. ونتخذ تجاهه المواقف الناجعة والصارمة في أبعاد شتى.


قبل البدء:
ليست المسؤولية عنوانا وظيفيا ومكتبا كبيرا وكرسيا وثيرا وأوراقا وجهاز حاسوب وقلما للإمضاء وسيارة مصلحة ومكيفا و... فحسب، وإنما هي قيم وأخلاق وسلوكات فضلا عن كونها علما وعملا بمقتضى ماهية المسؤولية. لكن، كثيرا ما نختزل المسؤولية في مجرد أوامر وتوجيهات وإرشادات وتوقيعات يوجهها الرئيس لمرؤوسيه. ويترك أمر تتبع التنفيذ والإجراء الميداني لمجموعة من النواب والمساعدين يكونون في أغلب الأحيان في حل من المساءلة والمراقبة المهنية.
يكتفون برفع تقارير عن التنفيذ على أوراق ترتب ترتيبا في أرشيف المصلحة، لتصبح مع التقادم تاريخا أدبيا لمرحلة ما من مراحل المسؤولية، يعلوها الغبار؛ وفي أحسن الأحوال تمتد إليها يد باحث لدراستها وسبر معطياتها؛ لأجل تحقيق غرض علمي أو لنيل شهادة أو لتحقيق رغبة ذاتية في البحث! أو لتفعيل معطى إيجابي منها..
وكثيرة هي التعثرات والمعوقات المتضمنة في تلك التقارير، التي يهمل علاجها، وتهمل الاستفادة منها في حينه أو بعد حين وجيز من حدوثها، وقد تكون تعثرات ومعوقات بنيوية لا يفطن إليها، فيستفحل أمرها. والمسؤول عنها غافل مشغول في أمور أخرى. وهذا ما يقع عندنا في النظام التربوي والتكويني؛ حيث كثيرة هي التقارير المرفوعة إلى الوزارة الوصية عن هذا القطاع من أكثر من جهة معينة بما فيها المجالس المؤسساتية الموجودة في المؤسسة التعليمية. وبما فيها أرشيف الوزارة وأدبيات وتاريخ النظام التعليمي المغربي؛ الذي شهد ومازال يشهد العديد من الظواهر السلبية والمعوقات البنيوية والأدائية. لكن دون أن تنتبه الوزارة إلى قيمة تلك التقارير وذلك التاريخ وتلك الأدبيات في تصحيح اختلالات نظامنا التعليمي. ومن جملة تلك الظواهر السلبية تسريب مواضيع الامتحانات.
فقد شهد تاريخ النظام التعليمي المغربي أكثر من مرة تسريب الامتحانات؛ مما أتاح ويتيح للوزارة فرصة للتساؤل: لماذا تسريب الامتحانات؟ ما الأسباب والمسوغات وسبل العلاج؟ ومما شكل ويشكل دوافع إحداث إدارة الأزمات في بنية النظام التعليمي، ليتعاطى على الأقل مع هذه الظاهرة حين حدوثها. لكن لم يحدث شيء من ذلك، وذهبت تلك التقارير والأدبيات وذلك التاريخ أدراج الرياح، وتم نسيانها في رفوف الوزارة. فصارت التسريبات السابقة مجرد حدث تاريخي عابر ليست له أية قيمة في الحياة التربوية. وبذلك وجدناه يتكرر وسيتكرر إذا لم نقف عنده بكل عمق تحليلي. ونتخذ تجاهه المواقف الناجعة والصارمة في أبعاد شتى منها على سبيل المثال لا الحصر:

أبعاد الموقف من تسريب الامتحانات:
البعد الأدبي:
وأقصد به جرأة الاعتراف بوقوعه، وتحمل المسؤولية المعنوية عنه من قبل المسؤولين السامين في قطاع التربية الوطنية. بل الذهاب إلى أبعد من ذلك، بالاحتجاج عليه بصيغ حضارية من قبيل الاستقالة... مع تضامن الأمة مع المستقيل وإجلال استقالته وتكريمه لفعله واحتجاجه.
فهذا البعد الأدبي سيرسخ ثقافة احتجاج لدى المسؤولين كما عند عامة الأمة، فتصبح الظواهر السلبية محاصرة بيننا وسمجة في ثقافتنا. مرتكبوها منبوذون من قبل الجميع ومرفوضون من الأمة وأجهزتها الرسمية. وليس ذلك لذات الأشخاص وإنما لأفعالهم وتصرفاتهم لأنها تخل بقيم مجتمعية إيجابية، تربط بين مكونات المجتمع فضلا عن تحقيق تكافؤ الفرص بينهم مع شرف تلك الفرص وطهرها من دنس الانزلاقات الدنيئة...

البعد القانوني:
حيث نطبق على الفاعلين الأحكام والمقتضيات القانونية بعد إجراء مساطر البحث القانونية في النازلة، وفي أعلى درجاتها وأقصى عقوباتها، وبكل صرامة وحزم، حتى يرسخ في الذاكرة الجمعية الحدث بعقوبته، فيرتدع مرضى النفوس من جهة. ويتجلى الحق وتطبيقاته في الميدان للعيان من جهة ثانية.
وتطبيق القانون يجب أن يكون في حق كل من تبثث مشاركته القطعية في الجرم دون تمييز بين كبير وصغير، وبين رئيس ومرؤوس، تحقيقا للعدالة القضائية والاجتماعية. ويتم التشهير بذلك بين الأمة لنستدمج الحدث في تاريخنا وثقافتنا، ونعتبر به في قادم أيامنا...
وللبعد القانوني في تكوين المواقف من ظاهرة تسريب الامتحانات أهميته في ترسيخ ثقافة تجريم الحدث بالفعل لا بالقول فقط، المتمثل في النصوص القانونية. وبذلك تصبح لتلك القوانين قيمة قانونية واجتماعية متداولة بين الأمة. يثق فيها الجميع ويسعى إليها كل من هضم حقه...

البعد الثقافي:
ونعني به تأسيس ثقافة مجتمعية موحدة تعتبر تسريب الامتحانات جريمة أخلاقية منبوذة من الجميع، ولا تسعى إلى إيجاد التبريرات إليها، وتجاوز العثرات. بل تسعى إلى حرمتها مطلقا. فمادام بيننا من يسعى إلى التبرير بهذا المعطى أو ذاك في هذه القضية. فإن حرمة الفعل مازالت في سجال بين المستفيد وغير المستفيد..
وهذا البعد الثقافي منوط بأكثر من جهة، منها مؤسسة الأسرة والتربية والثقافة والأحزاب والنقابات والجمعيات والمثقفين والكتاب والمهتمين بالحقل الثقافي، كل وفق اختصاصه ومهامه. حيث ستدعم مجهودات هؤلاء المرجعية الدينية والأعراف والقيمة النبيلة المغربية؛ التي ظلت تمج كل قبيح الأفعال... وتدعو إلى محاربته والابتعاد عن ارتكابه...
فالبعد الثقافي في النازلة له أهمية في تأسيس الرقابة الذاتية الفردية لا من منطلق الخوف بل من منطلق احترام كل قيمة اجتماعية ومجتمعية إيجابية متواطإ على مردودها الإيجابي بين الأمة...

البعد القيمي:
إن منظومة القيم المجتمعية المرجعية في السلوك المجتمعي الجمعي بدأت تشهد تحولا نحو الاتجاه السالب، بما يفيد خروج قيم إيجابية منها ودخول قيم سلبية. حيث هذه القيم السلبية هي التي تقوض الأمن والترابط والالتحام والتآزر المجتمعي، وتفشي في المجتمع عوامل الاحتقان. وسنضرب مثالا بسيطا من خلال تسريب الامتحانات لهذه السنة.
ذلك أن النفوس المريضة التي سربت الامتحان لو كان هذا الفعل قيمة سلبية لديها لما ارتكبته؛ لكن مادام قيمة إيجابية عندها فقد ارتكبته تحت جنح الظلام لتوهم الغير أنها ارتكبته مرغمة تحت ذرائع عدة، سيكتشفها التحقيق لاحقا. وارتكابها ذلك عمل على تقسيم صفوف التلاميذ إلى شطرين على الأقل فضلا عن انقسام الأسر والمؤسسات غير الحكومية. فالصف الأول من التلاميذ هم الذين استفادوا من التسريب، والصنف الثاني هم الذين لم يستفيدوا من التسريب. فإذا نهضت الوزارة إلى إعادة الامتحان، فالذين استفادوا سيقولون لا لإعادة الامتحان. أما الذين لم يستفيدون فسيكونون مع الإعادة، ومن هنا يبدأ التناحر والاختلاف، ومن هنا تبدأ المصائب بعيدا عن الانعكاسات الأخرى لهذا الفعل الشنيع، التي ذهب ضحيتها المجدّ من التلاميذ والجهود العظمى التي بذلت في الاستعداد لهذه الامتحانات ومعاناة السنة الدراسية المالية والمادية والنفسية والاجتماعية زيادة عن المجهودات المبذولة في الإعداد لها والمشاق التي أحاطت بذلك...
أما ارتكاب هذه الجريمة؛ فإن الرأي المغربي انقسم حولها بين متريث ومندفع ورزين. منهم من رآها دسيسة لضرب قيمته السياسية، ومنهم من رآها اختلالا سياسيا، ومنهم من رآها انعكاسا للعولمة وأمر مضخم... ومنه نلمس كيف تضرب منظومة القيم بعناوين مختلفة وتفسيرات متنوعة، في حين لو كنا نملك نحوها مرجعية قيمية موحدة لما وجدنا هذا الاختلاف في أمر ضرره أكثر من نفعه، وهو محرم بحكم الفقه الإسلامي لما فيه من غش وتدليس.
وليس الوارد إسهاب تحليل هذه الأبعاد بقدر ما هي إلا إشارات بسيطة ومؤشرات عن اختلالات في الميدان وجب التنبه إليها ومعالجتها بحكمة. لا نفْيها أو التقليل من شأنها أو تسطيحها.

البعد الاجتماعي:
لهذه النازلة أثر كبير اجتماعيا على الطبقات الاجتماعية؛ إذ سيزيد الاحتقان بينها، خاصة بين الطبقة الميسورة والطبقة الفقيرة. فمجرد شراء المواضيع ب: 5000 درهم كما ورد على لسان البعض هو مؤشر إضافي للاحتقان، دال على الفوارق المادية والمالية بين الطبقات. كما أن التعليم الذي تمارس فيه هذه السلوكات المشينة هو تعليم فاشل لا قيمة له، ومن تم يكون هناك دافع آخر إلى عدم الجدية والاجتهاد في الدراسة وفقدان الثقة فيه. وبالتالي فشهادته ستضرب اجتماعيا وعلميا في قيمتها! في حين أن المؤسسة التعليمية لا ينقصها مثل هذه المواطن الضارة بها، فهي تعيش المشاكل والمصاعب الجمة الفائحة رائحتها في جرائدنا الوطنية...
إن مثل هذا العمل (...) يرسخ لدى البعض الإحباط واليأس بدل تأسيس الأمل والتفاؤل، ومن تم يجعل التعليم اجتماعيا أمرا مشوشا نحو المستقبل. لهذا وجب التفطن إلى المأزق الذي يؤدي إليه هذا العمل الرديء في تأزيم الأزمة التعليمية لدى الطبقات الاجتماعية خاصة منها محدودة الدخل التي ترى فيه آفاقا واعدة للتدرج الاجتماعي نحو الأفضل رغم هشاشته.

قبل الختم:
هذه بعض المؤشرات المعبرة عن الأزمة تبين بالملموس والمحسوس أن أمر التسريب خطير جدا، له انعكاسات سلبية في أبعاد عدة. تستوجب التصدي له بكل قوة وحزم من قبل الجميع دون استثناء، تحقيقا لتعليم جيد ومنتج ومبدع ومشرف ومصان وذي مصداقية. ويبقى الصمت نحوه أو شجبه عن استحياء أو تلطيفه أو التقليل من خطورته وآثاره في ظل منتجات التكنولوجيا وعصر المعلوميات فائقة السرعة والذكاء مدانا بكل المعايير الدينية والسياسية والأخلاقية والإنسانية والقانونية والاجتماعية؛ لأنه جرم في حق المجتمع قاطبة وليس في حق فئة معينة. ويبقى التسريب حدثا غير مبرر بالمطلق، وغير مفسر إلا بحيثياته المتضمنة في ذاته لا الخارجة عنه، التي يسقطها هذا أو ذاك عليه بدعوى هذه القراءة أو تلك.
وتبقى جمعيات ومنظمات وأحزاب ونقابات ومؤسسات المجتمع المدني تتحمل كامل مسؤوليتها في الدفاع عن الحقوق العامة، ومنها صيانة قيمة شهادة البكالوريا، وحرمة الامتحانات وشرف المهنة وأخلاقياتها. كما يبقى الدفع نحو فتح تحقيق نزيه وشفاف يفضي بالمتورطين إلى يد العدالة المغربية مطلبا وطنيا تجتمع حوله تلك التنظيمات، حتى لا تتكرر المأساة ثانية، وحتى نأخذ العبرة منها في مستقبل مسيرتنا التعليمية. ويبقى على الوزارة المسؤولة والمختصة أن تراجع بنية نظامها التعليمي بما يفعلها ويصححها ويطورها ويحسنها، وبما يحصنها من عبث العابثين. بتطبيق مبادئ أساسية كوضع الإنسان الكفء والشريف المناسب في المكان المناسب، وتفعيل دور جهاز المراقبة والتأطير في الحياة التربوية والتكوينية، بجانب تفعيل مجالس المؤسسات في تصريف الشأن التعليمي في إطار من الشراكة الوازنة والفاعلة، وتخليق المرفق العام بتفعيل الميثاق الأخلاقي المهني، والضرب بشدة على كل خرق للقانون ولواجبات وأخلاقيات المهنة، والقيام بدورات تكوينية في منظومة القيم وخلق حوافز للشرفاء والمجدين...
ويبقى التعاطي مع المشكل من وجوه عدة أنجع وسيلة لعلاجه بدل حصره في وجه واحد قد يعمق آثاره، لأنه حدث غير بسيط ولا سهل، بل هو حدث خطير وعميق، جروحه غائرة في ذات المجتمع. تنعكس عليه في المدى القريب والبعيد، سواء في الداخل أو الخارج. والتصدي له يتطلب تضافر الجهود وتحمل المسؤوليات نحوه دون الدخول في متاهات ردود الأفعال المتسرعة!؟... حتى تصبح بذلك المسؤولية مسؤولية مَسْؤولَة، مبررة لوجودها المادي والوظيفي والمهني والقانوني لا مجرد مصطلح بلا مضمون، وجسد بلا روح...
وحيث أن هذا الفعل مدان بكل اللغات والقوانين والأديان والقيم النبيلة، فإني أشجبه وأستنكره بشدة، ولا يشرف المنظومة التربوية والتكوينية التي تربي على القيم والأخلاق والعلم والمعرفة والأداء، وتشكل المجموع في إطار محددات الهوية ... أن ينتمي إليها فاعله ومروجه. وحسبي الله ونعم الوكيل.

كتبه : عبدالعزيز قريش
في موقع تنمية